جميلة كانت المشهدية في معراب، ولدى فئة محدودة من الطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذا الحدث الذي بلغ حدود الدهشة، لم يلامس حدود البهجة الجماهيرية الواسعة، وتجهُّم وجه النائب أنطوان زهرا في استقبال الجنرال، لم تعوّضه ابتسامة النائب ستريدا جعجع وباقي نواب "القوات"، وهذا التجهُّم عكس صحة تمثيل زهرا لفئة "قواتية" ترفض هذه التسوية، نتيجة تراكمات خلافية بين العونيين وشباب "القوات"، كان يمكن تلافيها أو الحد من تفاقمها لو حصلت المصالحة منذ ربع قرن.
الفئة الشعبية من مناصري الطرفين، والتي لم تختطفها لهفة العناق، غاب بعضها عن مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها الآخر علّق آمالاً خجولة على وحدة المسيحيين، وذهب آخرون إلى حدود الهجوم على مصالحة هجينة، نتائجها أشبه بـ"الجعجعة من دون طحين"، وهذه الفئة مع الأسف هي الأكثر واقعية، لأن الخلاف بين المسيحيين ليس على توحيد عيد الفصح، بل على توحيد الوطن، والخلاف أيضاً على مفهوم السيادة، والدور الكبير للمقاومة مادامت هناك أرض لبنانية محتلّة، ومادامت هناك قرى في الأطراف - وبعضها مسيحيية - مهدَّدة بسكاكين الإرهاب التكفيري القادم من الشرق، سيما أن جماهير المقاومة من المسيحيين ملتزمة أكثر من أي وقت مضى بوثيقة التفاهم و"شفاعة مار مخايل".
المسألة جداً معقَّدة، وهي أكبر حتى من قدرات أكبر قطبين مسيحيين، وإذا كانت مسألة استيعاب جماهير الطرفين المسيحيين صعبة لأسباب محض سياسية ووطنية، فكيف تكون معراب محطة انطلاق إلى بعبدا كما يرى كثيرون، خصوصاً أن التجارب السابقة في السياسة اللبنانية أثبتت أن "كلام الليل يمحوه النهار"، وتوقيع في بكركي كان يلغى بمكالمة من "بيت الوسط"، وربما
كان حرياً بكلمتي القائدين أن تمرّا مرور الكرام على مسألة ترشيح القوات للعماد عون، ويخصص الباقي للحديث عن جهود التقريب والتقارب بين القاعدتين الحزبيتين، سواء وصل العماد عون إلى بعبدا أم لم يصل، وربما كان لهذه الجزئية لو تطرقا إليها أهمية بالغة تثبت الرغبة في الوحدة أكثر من الرغبة بالكرسي.
الواقعية تفرض الاعتراف بأن معراب ليست ممراً إلى بعبدا، بل هي محطة على درب التوافقات الطويلة، لكن مشكلة توافق معراب - الرابية الذي سمّاه الظرفاء في مدوناتهم "معرابية"، هذا التوافق قد لا ينسحب توافقات مع الشركاء الآخرين في الوطن، بل قد يخلط الأوراق بطريقة غير مسبوقة لم يعرفها واقع التحالفات السياسية اللبنانية منذ العام 2005، وقد تكون له تداعيات سلبية، إلا إذا غدت طريق معراب الضاحية سالكة، وكذلك طريق "بيت الوسط" الرابية، علماً أن "سيد بيت الوسط" ما زال يتخبّط للخروج من الغرق في بحيرة بنشعي، وزعيم بنشعي مستمر في ترشيحه.
منذ تسمية الحريري للنائب فرنجية، اختلط فعلاً الحابل بالنابل، وإعلان تزكية العماد عون من معراب ليس نتاج ورقة "إعلان النوايا" بين "التيار" و"القوات"، بقدر ما هو ردة فعل "قواتية" على احتكار الرئيس سعد الحريري لقيادة الناس دون مشورتها، وهو الذي كان يمتلك المال و"أفلس"، ولا يمتلك الكاريزما القيادية التي تؤهّله ليسوق الحلفاء كالقطعان، خصوصاً أن وزنه السعودي لم يعد كما كان على قبان قاعة الوصول في مطار الرياض منذ أربع سنوات، لا مادياً ولا سياسياً، وبات الرئيس السنيورة يشاركه في كل شيء لا بل يجلس على رأس مائدة المكاسب ضمن فريق "السما الزرقا".
نجح الحريري، لو أردنا أن ننسب إليه نجاحات، في ضرب الأقطاب الموارنة ببعضهم ومعهم البطريرك الراعي، وزيارة السنيورة لبكركي قبل ساعات من لقاء معراب جاءت لتضرب سلفاً "التزكية القواتية" للعماد عون، وهذه السياسات "الأفعوية" ليست بعيدة عن الأداء في التوافقات والللتزامات التي تُمحى بشحطة قلم.
الطريق مسافتها أطول من الرابية - معراب، خصوصاً أن متابعة هذه الطريق إلى بعبدا تستوجب حكماً المرور بالضاحية، والضاحية تمتلك مفتاح عين التينة متى تقرر الاستحقاق، لكن غياب الحريري وفي جيبه 36 نائباً، وفي جعبته أحلام السراي الممنوعة، وتلويح أبواقه بالفتنة السُّنية - الشيعية على خلفية ما يحصل في الإقليم، وتلميحهم السلبي عند كل مناسبة بـ"دولة السلاح"، وكل هذه السلبيات لا تبشّر بالخير، وما على اللبنانيين الحالمين برئيس سوى الانتظار، وخارطة الطريق التي بدأت من الرابية إلى معراب طويلة طويلة، وستعبر الحدود إلى الرياض وطهران ومن ثم إلى دمشق، ولن يتصاعد الدخان الأبيض من بعبدا قبل أن تتكلل مدخنة قصر المهاجرين جزئياً بدخان السلام.